من الایات التی یستدل بها علی وجوب الامر بالمعروف و النهی عن المنکر ما ورد فی المصحف الشریف للتوبیخ و الذم لترک الامر بالمعروف و النهی عن المنکر فی ادیان السابقه. و الیک ما یلی :
آلایة الاولی :
«لَوْ لاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»(63 آل عمران )
«لَوْلا» أداة حض بمعنى هلا التوبیخیه و «يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ» فعل مضارع و الهاء مفعوله و الربانيون فاعله «وَ الْأَحْبارُ» عطف على ما قبله «عَنْ قَوْلِهِمُ» متعلقان بينهاهم «الْإِثْمَ» مفعول به للمصدر: قول و مثلها: «السُّحْتَ» مفعول به للمصدر أكل المعطوفة على قول قبلها. «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ».یمکن ان یستدل بهذه الآیه بان یقال بان مفادها تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن «لولا» إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ و إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.فالآیة تخاطب بالاحبار و الربانیین فی زمن نزول الآیة جدلا و ترغبهم باتیان وظیفتهم الدینیة الثابة تجاه المعاصی کاکلهم السحت و قولهم الاثم و المنع عن ترک النهی عن المعاصی.او تدل علی توبیخ الاحبار الماضی لترکهم النهی عن المعاصی بمعنی لم لاتفعل.
اقول: الاستدلال بالایه بهذا التقریب لابد من ذکر الضمیمتین:
الاولی :تمامیة التعبیر ب«الصنع» علی ترک النهی عن المعاصی. لانها تعبیر وجودی و لایصح ان یحکی عن امر العدمی[1] فبهذه القرینة یمکن ان یدعی ارجاع ذیل آلایة بعمل الیهود و النصاری لاکل السحت و قولهم الاثم و هما امران وجودیان (ای سائت ما یعمل الیهود و النصاری لاکلهم السحت و قولهم الاثم.) دون ترک الاحبار النهی عن المعاصی.
و یرد علیه : ترک الامر و النهی و ان کان امرا عدمیا لکن لایبعد اطلاق الصنع علیه بقرینة لوازمه العادی لان کل امر عدمی ملازم مع امر الوجودی نوعا. فدلت الآية على أن تارك النهي عن المنكر كمرتكب المنكر، فالآية توبيخ للعلماء في ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.و یوید هذا المعنی توبیخ هؤلاء اليهود دأبهم المسارعة إلى اقتراف الآثام و إلى أكل المال الحرام، فهلا ينهاهم علماؤهم عن هذه الأقوال الكاذبة الباطلة، و عن تلك المآكل الخبيثة التي أكلوها عن طريق السحت و ذمهم بقوله: (لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). فالآية الكريمة بعد تقبيح اليهود الذين اتخذوا دين الحق هزواً و لعباً تذم أئمتهم برضاهم بهذه الأوزار، و ترك فريضة النهي عن المنكر، و توبخهم بأشد من توبيخ اليهود العاملين.فارجاع الذیل لعمل الیهود تکرار المکرر و هو کماتری .فقوله: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ» تذييل قصد به ذم علماء اليهود بسبب تركهم لفضيلة الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر.
و قد تكلم المفسرون عن السر في أن اللّه تعالى- ذم اليهود بقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و ذم علماءهم بقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ.و قد أجاد الكلام عن ذلك الرازي فقال: و المعنى، أن اللّه- تعالى- استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم و عوامهم عن المعاصي، و ذلك يدل على أن تارك النهى عن المنكر بمنزلة مرتكبه، لأنه- تعالى- ذم الفريقين .. بل نقول: إن ذم تارك النهى عن المنكر أقوى، لأنه- سبحانه- قال في المقدمين على الإثم و العدوان و أكل السحت لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و قال في العلماء التاركين للنهى عن المنكر لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ و الصنع أقوى من العمل، لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار راسخا متمكنا، فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ. و ذنب التاركين للنهى عن المنكر ذنبا راسخا.
الثانیة: تمامیة قاعدة الاشتراک الاحکام بناءا علی التحضیض و الترغیب و تمامیة الاستصحاب عدم نسخ الاحکام الشرائع السابقة بناء علی التوبیخ.[2]
و یوید هذا المعنی ما ورد فِي تُحَفِ الْعُقُولِ عَنِ الْحُسَيْنِ ع قَالَ وَ يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ ع اعْتَبِرُوا أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا وَعَظَ اللَّهُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ- مِنْ سُوءِ ثَنَائِهِ عَلَى الْأَحْبَارِ- إِذْ يَقُولُ لَوْ لٰا يَنْهٰاهُمُ الرَّبّٰانِيُّونَ وَ الْأَحْبٰارُ- عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ قَالَ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ- إِلَى قَوْلِهِ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ وَ إِنَّمَا عَابَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ- لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مِنَ الظَّلَمَةِ الْمُنْكَرَ وَ الْفَسَادَ- فَلَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْ ذَلِكَ رَغْبَةً فِيمَا كَانُوا يَنَالُونَ مِنْهُمْ- وَ رَهْبَةً مِمَّا يَحْذَرُونَ...الخ
الآیة الثانیه :
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79مائده)
هذه الآیه تحکی عن الذین لم يتحملوا أية مسئولية اجتماعية، و لا هم كانوا يتناهون عن المنكر،بل کانوا بسکوتهم یرغبون العصاه بعصیانهم و لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لذلك فقد كانت أعمالهم سيئة و قبيحة: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ.کما ورد عن الامام الصّادق عليه السّلام في تفسير كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أنّه قال: «أمّا أنّهم لم يكونوا يدخلون مداخلهم و لا يجلسون مجالسهم، و لكن كانوا إذا لقوهم ضحكوا في وجوههم و أنسوا بهم»[3]
الاستدلال بها یتوقف علی تمامیه مقدمات الآتیه:
المقدمة الاولی:دلاله اللعن علی الحرمه و (اللعن) أشد ما يعتبر به الله تعالى عن غضبه، فالملعون هو المحروم من رحمة الله و رأفته . و اللّه تعالى بين ذلك لرسوله و للمؤمنين عبرة لهم حتى لا يفعلوا فعلهم و يكونوا مثلهم، فيحل بهم من لعنة اللّه و غضبه ما حل بهم و هو ظاهر فی الحرمه .
المقدمة الثانیة: تبیین معنی (لایتناهون). ظاهره التفاعل بمعنى الاشتراك أي: لا ينهى بعضهم بعضا، و ذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر و التجاهر به، و عدم النهي عنه.و التعبیر بالجمع اشعارا بأن عمل المنكر لم يكن عملا فرديا في المجتمع اليهودي و إنما كان عمل الجماعة كلها، و ان المنكر قد شاع بينهم، حتى صار عادة من عاداتهم المألوفة و لذا لم يوجد فيهم من يستنكر المنكر. فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية و الاعتداء، و مفيدة لاستمرارهما صريحا.
و هناک اوجه فی تفسیر (لایتناهون):
ألاولی : (التناهى) لمطاوعة المفاعلة و هو الذي عليه الجمهور- أنه تفاعل من النهى. أى: كانوا لا ينهى بعضهم بعضا و لا ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر، و صيغتها تدلّ على الامتداد و الاستمرار، بخلاف الانتهاء فهو لمطاوعة فعل مجرّدا والتعبير بهذه الصيغة للإشارة في المورد الى استمرار عملهم بالمنكرات و عدم مطاوعتهم عن النواهي في امتداد حياتهم.
الثاني: (التناهى) بمعنى الانتهاء عن الأمر،ای تناهى عنه إذا كف عنه[4]. ان شئت قلت يجوز أن يريد بقوله لا يَتَناهَوْنَ لا ينتهون و لا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصرون عليه و يداومون، يقال: تناهى عن الأمر و انتهى عنه بمعنى واحد: أي امتنع عنه و تركه.
الثالث: ان یقال مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيا و منهيا معا، كما في تراؤوا الهلال[5]
و لا فرق بین هذه التفاسیر فی دلالة الآیه علی وجوب سواء کان المراد بها التناهی او النهی و حرمة عدم التناهی.اما بناءا علی ان المراد من (لایتناهون ) الانتهاء عن النهی فیمکن ان یقال بعدم دلاله الآیه علی وجوب النهی عن المنکر لان وجوب الانتهاء عن النهی لایلازم وجوب النهی عن العمل.
المقدمة الثالثة:انضمام قاعدة الاشتراک لان الآیة تحکی عن اللعن علی لسان الانبیاء الماضین علیهم السلام. لکن یمکن ان یقال تدل الآية على أن ترك التناهي عن المنكر مفسد للامة. و أكد اللّه تعالى اللعن و الذم بقوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ.و اللّه تعالى بين ذلك لرسوله و للمؤمنين عبرة لهم حتى لا يفعلوا فعلهم و يكونوا مثلهم، فيحل بهم من لعنة اللّه و غضبه ما حل بهم.ان قلت ان الاستدلال بهذهین الآیتن تتوقف علی القطع بعدم الخصوصیه و عدم اختصاص ذلک الحکم بالادیان السابقه فلایمکن ان نعتقد باشتراک الاحکام کوجوب الامر بالمعروف و النهی عن المنکر .قلت یمکن ان یقال ان من الاحکام ما تشترک فی جمیع الادیان السابقه و اللاحقه کالتزویج بالمحارم و الشرب الخمر و...فلایتغیر بتغیر الشریعه فلاینسخ . [6]فیمکن ان یقال ان لزوم الامر بالمعروف و النهی عن المنکر منها.
[1] -قد نواجه هذه المشکلة فی ابحاث التقیه ذیل روایة ( ما صنعتم من شیئ فی تقیه ....) و شمولها لامور العدمی تقیه.
[2] -راجع الخاتمه الثانیه حول هذا البحث مفصلا.
[3] -تفسير البرهان: ج 1، ص 492، و تفسير نور الثقلين: ج 1، ص 661.
[4] -تفسير الفخر الرازي ج 12 ص 64
[5] -روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، ج3، ص: 377
[6] -انظر کتاب النکاح . للسید الشبیری الزنجانی ، ج 4 ، ص 1103